المدرسة التكعيبية
حين شرع براك، في نهاية عام 1907، يدير ظهره للوحوشيه كان هدفه تقليل قوة اللون من اجل زيادة قوة الشكل، لا لتأكيد الخط وحسب بل الحجم أيضا، رسم بعد بضعة شهور في "الايستاك" مناظر طبيعية كان كل شيء فيها جسما صلدا مختزلا إلي شكل هندسي، حيث لا تقل النبتة صلابة ورقة عن صلابة جذور الأشجار وحيطان البيوت. كتب لويس فولسيل عن هذه الأعمال يقول:
"السيد براك اختزل كل شيء المواقع والأشخاص والبيوت، وجعلها تخطيطات هندسية… فمكعبات !" هنا، بالذات، سن الكلمة الدالة التي قدر لها أن تصف الاتجاه الجديد.."التكعيبية".
الواضح أن المسألة كانت بالنسبة إلي براك والي بيكاسو الذي كان يعمل وفق الاتجاه ذاته، اكثر من مكعبات! وعلى الرغم من أن المصطلح يمكن أن ينطبق، مع بعض التبرير، على أعمال هذين الفنانين التي رسماها قبل عام 1910، إلا انه لا يصح إطلاقه على كل الأعمال التي أنتجاها بعد هذا التاريخ لقد تحررا بعده من تأثير سيزان والفن البدائي الذي احتوي عناصر شكلية في أسلوبيها حتى ذلك الحين، وبرزت التكعيبية اكثر الحركات ثورية في مجال الرسم الشكلاني منذ القرن الخامس عشر والحق، أنها تخلت عن كل مفاهيم الواقعية البصرية وأهملت كلياً المنظور "التقليدي"، والنمذجة، والتأثيرات المحتملة الخفيفة لا بسبب موقفها المغاير تجاه الأشياء، بل لأنها أرادت أن تحللها بصورة اقرب، وحاولت أن تقدم لها تمثيلاً اكثر شمولاً. كان التكعيبيون أول من أدرك تماما بأنه: باختيار زاوية نظر مفردة فان عصر النهضة طبق في الصورة نظاماً معيناً وأدان نفسه في الوقت ذاته بإعطاء الأشياء منظراً جزئياً وحسب، وهو الجانب الذي يراه الناظر في لحظة سكون، أما اليوم فالإنسان المعاصر يتحرك من مكان إلى آخر بسرعة مطردة، والصورة التي يتلقاها عن العالم معقدة. هذا التعقيد هو ما سعى التكعيبيون إلى نقله على قماشة اللوحة بوضع ظواهر الشيء المتعددة إلى جنب على السطح المستوي ذاته، بحيث يتعذر على العين أن تري الأشياء في وقت واحد، بينما في مقدور الذهن أن يوجدها من جديد.
ليست هناك فائدة من الادعاء بأن الأعمال التكعيبية يمكن تفسيرها بتفصيلاتها كلها بهذا الاهتمام وإعطاء الواقع تأويلا جديدا، فالواضع أن الفنانين استمتعوا أيضا بتغيير الأشكال الطبيعية، بل بتجاهلها أحيانا، أو التعويض بأشكال خيالية عنها، يقول براك:"أن الرسام لا يحاول أن يعيد تمثيل وضع ما، إنما يحاول أن يبني حقيقة صورية." فموضوعاته، مثل تلك التي لبيكاسو، كانت عادية جداً. كان ميلهما المحبذ نحو الحياة الساكنة(Still-life) التي تجمع في الغالب قنينة وقدحاً وغليوناً وصحفية وغيتاراً أو كماناً معا. وحين كانا يقرران أن يرسما إنسانا، فانهما ينتزعان منه هيبته ووقاره وأهميته. لم يكن لعلم النفس موطئ في هذا الفن، سوي أن مبتكريه يضعان نفسيهما تماما بدل الشخوص الماثلة أمامهما عند الرسم.
وفي العديد من أعمال الفترة 1910-1912 عمد براك وبيكاسو إلى تجزئة الأشياء حدا انتهى بتناثرها و أبادتها. لقد بلغا مشارف الفن التجريدي، لكنهما لم يتجاوزا الحدود إليه وفي تطورهما المنسق حتى اندلاع الحرب في عام 1914، قاما بمحاولة لإعادة تأسيس القيم الصورية للأشياء وجعلها اكثر بروزا للعين. لقد قللا من تشطيرها وزادا من تحديدها، دون اللجوء إلى الأساليب الطبيعية أو الواقعية وفي الفترة ذاتها، شرعا ادخل الحروف المطبعية في أعمالهما منضدة في كلمات مثل(Bal) و(Le Torero) و (ma Jolie)، ألتي مثلت فكرة "موتيفاً" زخرفية و أقحمت قرائنها الذهبية في الصورة، بل ذهبا إلى ابعد من ذلك، فابتكرا الأوراق الملصقة(قطعاً من الجرائد، وورقاً مطلياً وورق تغليف) والصقاها رأسا على القماش، وقاماً أحيانا بوضع لمسات من اللون عليها، بهذا وضعت الحقيقة (المحولة) جوار الحقيقة (الخام) التافهة، لتتحول الثانية فتكتسب قيمة صورية وأهمية دلالية. إضافة إلى ذلك ساعدت هذه الملصقات الورقية براك وبيكاسو على التطور من المرحلة التحليلية إلى المرحلة التركيبية للتكعيبية، وقادتهما إلي خلق إثارات فضائية باستعمال اكثر الوسائل أولية (شريطين من الورق، مثلاً، بلونين مختلفين) كما ساعدتهما هذه الملصقات الورقية في النهاية على إعادة اكتشاف اللون. فاستيعابهما الكلى لمشكلة الشك جعل التكعيبيين زهاداً في اللون يختارون من الأصباغ اقلها، وقيام الفنان بتسليط الضوء بعشوائية على مساحة الصورة، أدى إلي تدرج حاذق في تنغيم الألوان الرصاصية والبنية والصفراء الأوكرية. وفي حوالي عام 1913، هجرا هذه الصورة أحادية اللون ونوعا الألوان، وجعلاها اقوي من قبل أيضا.
لعب اللون فعلاً دوراً مهماً في تجارب اثنين آخرين من الرسامين الذين كانوا على صلة بالتكعيبية: ديلوني وليجيه، فمنذ أوائل عام 1910 أعلن ديلوني بأن براك وبيكاسو "يرسمان بنسيج العنكبوت!" وكرد فعل، استعمل مندرجاً حراً من الألوان الدافئة، بينما عمد ليجيه إلى استخدام الأزرق والأحمر الخالصين منذ عام 1912 وما بعده.لم تكن هذه هي النقطة الوحيدة التي اختلفا فيها مع زملائهم الفنانين، فقد تأثرا كذلك بسيزان لكن تأثيره كان مغايراً عمدا إلي هندسة الشكل دون تشطيره أو تجزئته ولم ينغلقا على نفسيهما في محترفيهما يرسمان الأشكال المتواضعة الموجودة علي المائدة وحسب فقد استمد ديلوني مثلاً الإلهام من "برج أيفل" ورسم ليجيه "عبور السكة" و"منظر باريس من النافذة". وكلاهما كان على وعي شديد بالإيقاع السريع في الحياة الحديثة والإثارات الجديدة المفاجئة التي ولدتها التكنولوجيا في العالم حولهما.
وعلى الرغم من أن براك وبيكاسو وديلوني وليجيه جاءوا بأفكار التكعيبية الثورية غير انهم لم يكونوا وحدهم في الحركة، فقد أيدهم فنانون آخرون مناصرون، لكن الخصائص المميزة لكل منهم بقيت واضحة بين هذا الفنان وذاك.
أن تجارب خوان غريس ولويس ماركوسيس واميلو بيتوروتي ذات صلة ولو بدرجة معنية،ببراك وبيكاسو كان جاك فيون، واخوة مارسيل دوشامب في الاخصالأخصعين بالحركة، بينما اعتبر البرت كليز وجان ميتزنغر وروجر دي لافريسني واندرية لوت التكعيبية نظاماً منضبطاً، وسيلة لتبسيط الشكل، وتقوية التكوين، ومنح التقليد حياة جديدة.
كان للتكعيبيين تأثير واسع في كل مكان، وفي إمكاننا أن نعثر على رسامين تأثروا بالتكعيبية في بقاع العالم المختلفة، إضافة إلي ذلك، أن نشاطهم لم يكن محدداً بالرسم، بل شمل الملصق والإطاعة والديكور المسرحي والنحت والعمارة.
Bookmarks